بقلم / علي جودة
“إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء”.
الجاحظ
“معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان لم يأت”.
معاوية
في زمن الأصمعي والنحاة المبرزين من السابقين الأولين كان التشدق هو الإتيان بألفاظٍ وعبارات غريبة على الآذان، وعرة على اللسان، لا لشيء إلا لتحدي القرناء وتعجيز البسطاء، كالذي رُوي عن أبي علقمة النحوي في حديثه مع غلام له، حينما أراد عن يسأله عن “الدِيَكة”، فبدل أن يقول له “أصاحت الديكة؟”، تشدق فسأله: “أصقعت العتاريف؟”، فما كان من الغلام، الذي قلّ حظه من العلم وسعة الأفهام، إلا أن رد عليه تشدقاً بتشدق، فقال: “زقفيلم”، وهي كلمة لا وجود لها في أي معجم، ولكنها أراد تعجيزه والسلام.
قد أضع ذلك إلى جانب ما رُوي عن أحد الأولين من المتشدقين: “ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني”، فأفهم ويفهم غيري أن هذا داخل في باب التشدق والتقعر لا ريب.
أما أن يأتي علينا زمان يُتهم فيه بالتشدق والتحذلق من يوشّي كلامه وكتاباته بآي من القرآن وبالشعر العربي والأمثال والمأثورات البليغة، وبأنه يعيش جاهلية لغوية لا هي عصرية ولا حضارية، فذلك لا أفهمه إلا أنه إرهاب لغوي وفكر انهزامي، وإغارة على تراثنا التليد وتاريخنا الشامخ الوطيد، يدعونا إلى قطع كل صلة لنا بلغتنا الأولى، واختراع لغة خلاسية لا هي شرقية ولا غربية، لا تعرف أهي عربية فصيحة أم عامية قبيحة، نراها كل يوم في مؤلفاتنا وإعلامنا وترجماتنا، دعك من شوارعنا ومياديننا، لتصدق نبوءة حافظ إبراهيم في مرثية العربية:
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
غُربة العربية بين أهلها
يعيش بيننا ويتكلم بلساننا قومٌ من “العرب المتفرنجة”، بعبارة عبد الله النديم، ينادون بتحويل موروثنا اللغوي إلى تحفٍ بلاغية حبيسة دفاف الكتب كالأطلال نعوج عليها للتذكر والاعتبار شأنها شأن الأصنام والآثار، ومن يحاول استنهاضها يُتهم طوراً بالرجعية وطوراً بالتخلف والجمود، كمن يسعى – بزعمهم – إلى بعث الأموات أو إحياء أرض موات.